العالم العربيبورتريهثقافة وفنون

بلقيس الراوي… النخلة التي انكسرت على كتف القصيدة

بسّام عوده

كان ذلك في بغداد عام 1962، المدينة التي تفيض بالشعر كما يفيض نهر دجلة على ضفّتيه. قاعة عامرة بالشعراء والأدباء،  ضاجة بالتصفيق والتنهيدات، كان نزار قباني يعتلي المنصة، يُلقي قصيدة تموج بالعاطفة وتحتشد بالشجن. وفجأة… وقعت عيناه على فتاة عراقية في العشرين من عمرها، تمشي على مهل كأنها تمشي على نايٍ يعزف لحنًا من السماء. جمالها لا يُشبهه وصف، وقوامها كغصن يافع بلّله الندى. كانت بلقيس الراوي… فدخلت إلى قلب نزار كما تدخل القصيدة الموحى بها دون استئذان.

سأل عنها كما يسأل المتيم عن اسم معشوقته، فعرف أنها من الأعظمية، تسكن بيتًا يطلّ على دجلة، يشبه في هندسته البيوت الأندلسية التي سكنها نزار ذات يوم في إسبانيا. تقدّم لخطبتها، لكنه اصطدم بجدار العرف الصارم: “العرب لا يُزوّجون من تغزّل في بناتهم”، فكان الرفض قاطعًا. عاد نزار إلى منفاه الاختياري في مدريد، يحمل في قلبه طيف امرأة، وفي حقيبته رسالة لم تُقرأ.

لكن الحب الذي يولد من عيون الشعر لا يموت بسهولة. ظلّ يتراسل معها سرًا، متحديًا المسافات والأعراف، ودام ذلك سبع سنوات، كانت كسبع سنين من الانتظار النبيل.

وفي عام 1969، عاد نزار إلى بغداد ليشارك في مهرجان “المربد”، وألقى هناك قصيدته الشهيرة التي نطق فيها باسم الحب والخذلان:

مرحباً يا عراقُ، جئت أغنيك

وبعضٌ من الغناء بكاءُ…

قصيدة حملت وجع القلب وخيبات الغرام، حتى إنها لامست وجدان العراقيين، فأوصلوا صوته إلى الرئيس أحمد حسن البكر، الذي تأثّر بالقصة، ووجّه وزير الشباب الشاعر شفيق الكمالي ووكيل وزارة الخارجية الشاعر شاذل طاقة لطلب يد بلقيس رسميًا. هذه المرة وافق والدها… وتمّ الزواج.

تزوجا عام 1969، وعاشا معًا أجمل سنوات العمر، حُبًّا، وترحالاً، وشعرًا. كانت بلقيس ملهمة نزار، ومرآة قلبه، ومرساته الهادئة. كتب فيها قصائد كثيرة، أبرزها تلك التي غنّاها كاظم الساهر:

أشهد أن لا امرأة

أتقنت اللعبة إلا أنتِ…

واحتملت حماقتي عشرة أعوام…

ومع إشراقة عام 1981، استقر بهما المقام في بيروت، حيث عملت بلقيس في السفارة العراقية، وكان نزار يكتب ويُبدع في شارع الحمراء. وفي يومٍ كُتب عليه أن يكون أسودَ في ذاكرة الشاعر، ودّع نزار زوجته وهي تمضي إلى عملها، قَبّل يدها، ابتسمت له، ثم اختفت في الزحام.

لم تكد تمرّ ساعات، حتى هزّ بيروت انفجارٌ رهيب، دوّى في السماء وتفجّرت معه كل القصائد، وكل الأحلام. كانت بلقيس في مبنى السفارة العراقية حين طالها الإرهاب، فاستُشهدت مع عشرات الضحايا. سقطت القصيدة أمام العبث، وسقط قلب نزار.

حمل نزار وجعه، وكتب أطول قصيدة رثاء في حياته، قصيدة لا تُقرأ، بل تُبكى:

شكراً لكم…

فحبيبتي قُتلت…

وصار بوسعكم أن تشربوا كأساً على قبر الشهيدة

وقصيدتي اغتيلت…

وهل من أمةٍ في الأرض – إلا نحن – تغتال القصيدة؟

بلقيس…

كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل

بلقيس…

يا وجعي… ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل…

لم تكن بلقيس امرأة عادية في حياته، كانت القصيدة، والنبض، والوطن. كانت تلك التي “قلمت أظافره” و”أدخلته روضة الأطفال”. وحين غابت، تغيّر نزار. صار أكثر حزنًا، أكثر غضبًا، أكثر صمتًا.

قصة نزار وبلقيس ليست فقط قصة حب، بل مرآة لوطن يُفجع بالجميل، ويغتال صوته، ويكسر قلبه بألغام السياسة. إنها قصيدة كُتبت بدم القلب، ومزّقتها العبوة الناسفة. ورغم كل شيء، بقي اسم بلقيس يرفرف في وجدان نزار، كما النخلة العراقية التي تأبى أن تنحني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
Skip to content