العالمالعالم العربيالمجتمعغير مصنف

الحج بين المقصد الشرعي والسلوك الواعي

لِمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا”: دعوة للفهم قبل الامتثال

بقلم: بسّام عوده

شؤون عربية 

في موسم الحج، تتجدد الأشواق وتُرفع الأكفّ نحو السماء، يتلهف الملايين لنيل شرف الطواف ببيت الله الحرام. إنها فريضة عظيمة، تمثل ذروة التعبد، وغاية الرجاء، ووسيلة للتطهر والتجرد من الأثقال الدنيوية. لكن الآية الكريمة: “ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا” (آل عمران: 97) لا تدع مجالاً للتأويل العاطفي؛ بل تؤسس لتكليف دقيق، مشروط بالاستطاعة، التي تشمل القدرة الجسدية والمالية، والاستعداد النفسي والاجتماعي، في إطار من الفهم والوعي والمقصد.

قال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “افهم فيما أُدلي إليك، فإن القضاء قضية محكمة”. والفهم هنا هو مفتاح العبادة الصحيحة، والضمانة الكبرى للامتثال الموزون. فكما أن القضاء لا يُحكم بالعاطفة، كذلك الحج لا يُؤتى بالرغبة المجردة، بل بالاستحقاق، والتأهيل، والتوقيت المشروع.

شخصيًا، كنت أطلب أداء الحج في أكثر من مناسبة، وكان سفير المملكة العربية السعودية لدى تونس يردّ بعبارة مألوفة وفيها جانب من اللطافة : “إن شاء الله خير ، لمن استطاع إليه سبيلا”. كانت تتكرر حتى أصبحت مألوفة، ثم تحوّلت مع الوقت إلى مفتاح فهم. لم تكن مجرد تهذيب دبلوماسي، بل تعبير عن شرط شرعي متين لا يتزحزح. الاستطاعة ليست شعارًا، بل معيارًا، ومنهجًا يُبنى عليه قرار الحج.

ولأن الرغبة في الحج اليوم أصبحت شائعة إلى حد يكاد يغفل معه البعض عن سؤال الجدوى والاستحقاق، بات لزامًا أن نعيد تشكيل خطابنا الديني والاجتماعي حول هذه الفريضة. ليس كل من أراد الحج، قادرًا عليه. ولا كل من أنفق عليه، قد أدّاه كما ينبغي. فالعبادة في الإسلام ترتبط بالنية، كما ترتبط بالشروط والمقاصد.

الحج ليس رفاهًا روحيًا، بل تكليفًا يتطلب استعدادًا كاملاً. فكم من حاجٍّ ضيّع أسرته، أو أثقل كاهله بالديون، أو أدّى المناسك جسديًا دون أن يحقق غايتها القلبية والروحية، لمجرد أنه استعجل دون تدبر. ومتى غاب الفهم، ضاع السبيل.

من هنا، فإن الدعوة اليوم ليست فقط إلى أداء الحج، بل إلى التريث في أدائه حتى تكتمل أركانه وظروفه. إلى أن نفهم، قبل أن ننطلق. إلى أن نعي أن “من استطاع إليه سبيلا”، ليست قيدًا لتقليص أعداد، بل مبدأ لحماية النفوس، وصيانة المقاصد، وتحقيق العبادة كما أرادها الله

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
Skip to content