
بسّام عوده
لم يعد الكذب مجرّد انحراف أخلاقي يُرتكب في الخفاء، بل صار صناعة مزدهرة لها أدواتها وخبراؤها ومنصّاتها. في زمن الرقمنة والصورة السريعة، تحوّلت الحقيقة إلى ضيف عابر، بينما تصدّرت المشهد أوهام مصقولة بالضوء والمونتاج والتصفية.
نرى يوميًا شهاداتٍ عليا تُمنح، وألقابًا علمية تُنسب، وتكريمات تُوزّع كما تُوزّع أوراق الدعاية في الشوارع. ماجستيرات ودكتوراه، خبراء ومستشارون، روّاد وقادة، صور مبتهجة وأصوات تتعالى بالتصفيق… لكن حين تدنو من هذه المشاهد وتغوص في العمق، تكتشف أن كثيرًا منها فراغ ملوّن، ومحتوى مزيّف لا يسندُه علمٌ ولا تجربة ولا حتى خيط من الصدق.
لقد أصبحت الصورة أهم من المضمون. المهم أن تظهر، لا أن تكون. أن تلمع، لا أن تُثمر. صارت الحياة أشبه بمسرح ضخم، تُنتج فيه المشاهد اليومية بحرفيّة عالية، لكن بلا قصة حقيقية. كل شيء قابل للتزييف: الشهادات، المناصب، الإنجازات، وحتى النيات.
الواقع المؤلم هو أن هذه “الصناعة” تجد جمهورًا يتهافت عليها، بل ويسهم في تسويقها. نحن لا نعيش زمن الكذب فقط، بل زمن الاحتفاء بالكذب. نصدّق ما نحب أن نراه، لا ما يجب أن نعرفه. ونتواطأ أحيانًا مع الكذبة، كي لا نُحرج أنفسنا بحقيقة قد تكون جارحة أو محرجة.
الكذب اليوم لا يرتدي قناعًا، بل يرتدي بدلة رسمية، ويجلس في مقدمة الصفوف، ويُكرّم، ويُستدعى ليُحاضر عن “النجاح” و”الإبداع”.
إنه واقع محزن، لأن المجتمعات التي تحتفي بالوهم وتُقصي الحقيقة، لا تبني مستقبلًا بل تُراكم صورًا. وعاجلًا أم آجلًا، ستنكشف تلك الصور، كما ينكشف القناع بعد نهاية المسرحية، فنكتشف أننا صفقنا طويلًا للممثل الخطأ.
لقد آن الأوان أن نعيد الاعتبار للقيمة، لا للواجهة. للصدق، لا للزينة. أن نسأل: ما خلف الصورة؟ من يقف وراء المنجز؟ هل هناك عمل؟ هل هناك علم؟ أم أن كل شيء مجرد مشهد آخر من صناعة الكذب المتقنة؟
⸻