
في قلب الجزيرة العربية، حيث الرمال تخبئ أسرار قرون مضت، تبدأ الحكاية من أعماق وادي حنيفة، الذي شهد ولادة أول دولة سعودية. كانت الأرض، التي أنهكتها الصراعات القبلية لعقود طويلة، مسرحًا لحلم تحول إلى واقع، رحلة معقدة تجاوزت التمزق لتصنع الوحدة.
تعود جذور القصة إلى القرن الخامس الميلادي، حين اختارت قبيلة بني حنيفة الاستقرار في اليمامة، لتؤسس مجتمعًا زراعيًا ازدهر عبر الأجيال. لكن مع قدوم الإسلام وما تبعه من اضطرابات عقب الخلافة الراشدة، وجدت المنطقة نفسها غارقة في دوامة الانقسامات، حتى بدا وكأن مجدها قد طُوي.
لكن النهاية لم تُكتب بعد. ففي عام 1446م، ظهر الأمير مانع بن ربيعة المريدي حاملاً معه رؤى جديدة. اختار موقعًا استراتيجيًا عند ملتقى طرق التجارة، وأسس الدرعية، المدينة التي ستصبح لاحقًا مهد الدولة السعودية الأولى. لم يكن الأمر مجرد بناء مساكن، بل تصميم كيان متكامل يمزج بين الحصون القوية وشبكات الري الذكية، ليؤسس مجتمعًا قادرًا على الصمود والتطور.
عبر الأجيال، تنقلت الحكمة حتى بلغت الإمام محمد بن سعود عام 1727م، الذي أدرك أن تحويل الدرعية من إمارة صغيرة إلى دولة مؤثرة يتطلب ما هو أبعد من القوة العسكرية. فأسس نظامًا إداريًا يستند إلى الشورى مع شيوخ القبائل، معززًا قيم العدل والتعاون. نجح في تحويل الصراعات القبلية إلى تحالفات سياسية، وجعل من الأراضي القاحلة حقولًا خضراء عبر تقنيات ري متقدمة، حتى أصبحت الدرعية محطة للتجار والحجاج من أطراف الجزيرة.
مع نهاية القرن الثامن عشر، امتدت الدولة السعودية الأولى من حدود الخليج العربي حتى أطراف الحجاز، محققة وحدة جغرافية وثقافية لم تعرفها الجزيرة منذ قرون. كان المشروع أكثر من مجرد توسع إقليمي؛ لقد أعاد تشكيل الهوية القبلية، محولًا ثقافة الغزو إلى مفهوم الانتماء، والفوضى إلى نظام.
واليوم، حين يحل الثاني والعشرون من فبراير كل عام، تتجدد الذكرى كأكثر من حدث تاريخي؛ إنها شهادة على أن بناء الدول العظيمة يبدأ بعزيمة الإنسان قبل الحجر. الدرعية، التي واجهت الحملات العثمانية ودُمرت ثم نهضت من جديد، لا تزال تروي دروسها لكل زائر: أن النهضة فكرة تتحدى السقوط، والوحدة جسر يعبر الزمن.
ولعل العبرة الأعمق في هذه الحكاية أن التاريخ لا يُصنع بالحظ أو بالمصادفة، بل بإرادة صلبة تدرك أن التغيير الجذري يبدأ من الداخل قبل أن يظهر أثره في الخارج. إنها حكاية أمة وجدت قوتها في لحظات ضعفها، ورسمت ملامح مجدها وسط ركام الصراعات، لتؤكد أن التحديات ليست نهاية الطريق، بل بدايته الحقيقية.
بسّام عوده. _ شؤون عربية