
كتب : بسّام عودة _ شؤون عربية
في شوارع بيروت، وسط روائح البن المحمص وأصوات المارة التي تمتزج بوقع أقدام السياسيين والباعة والمتجولين، يتجول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ويحتسي قهوته. في لحظة بدت عابرة، لكنها حملت في طياتها دلالات أبعد من مجرد استراحة على رصيف بيروتي.
ماكرون، الذي اعتاد أن يكون ضيفًا متكررًا على لبنان في أزماته، لا يكتفي بالاجتماعات الرسمية والبيانات السياسية. بل يبدو أنه يهوى تلك اللحظات التي يتقاسم فيها القهوة مع اللبنانيين، تارة في منزل السيدة فيروز، حيث ارث الموسيقى والصوت الساحر والحكاية مع الرحابنة وتارة أخرى في أحد مقاهي بيروت حيث يلتف حوله المارة ويلتقطون الصور التذكارية، مشهد لم يعد متاحًا له بسهولة في شوارع باريس، حيث تلاحقه النكسات السياسية.
بيروت.. ملاذ وسط التراجع
لم يكن ماكرون رئيسًا فرنسيًا عاديًا في علاقته مع لبنان. فمنذ انفجار مرفأ بيروت في 2020، ظهر بشكل بدا وكأنه حاكم قديم عاد إلى ولاية كانت يومًا تحت سيطرة بلاده. صافح الناس، جال في الأحياء المنكوبة، وعاهد اللبنانيين على دعم فرنسا لهم، في وقت كانت باريس نفسها تخوض معاركها الداخلية من احتجاجات وإضرابات وتراجع شعبية.
وفي حين تتقلص مساحة النفوذ الفرنسي في إفريقيا، من مالي إلى النيجر، يبدو أن باريس تحاول التمسك بما تبقى لها من تأثير في الشرق الأوسط. لبنان، البلد الذي عاش لعقود على إيقاع الثقافة الفرنسية، لا يزال يتيح لماكرون تلك اللحظات التي يبحث عنها، حيث لا حواجز أمنية تفصله عن الناس، ولا صيحات معارضة تعكر صفو المشهد.
حين تصبح القهوة رسالة سياسية
بين رشفة وأخرى، قد يدرك ماكرون أن جلوسه في مقهى بيروتي ليس مجرد لحظة استراحة، بل هو مشهد مدروس بدقة. صورة رئيس أوروبي بين الناس، في بلد يمر بأزمات متراكمة، تمنحه حضورًا قد لا يجده حتى في بلاده. فرنسا التي صنعت نفوذها في لبنان عبر الثقافة واللغة والفكر، باتت اليوم تحاول الحفاظ على ذلك عبر الدبلوماسية الناعمة، وربما عبر قهوة يشاركها مع اللبنانيين.
لكن السؤال الأهم: هل يمكن لفنجان قهوة أن يعيد نفوذًا يتآكل؟ أم أن ماكرون، وهو ينهض عن طاولته في المقهى، يدرك أن باريس لم تعد قادرة على رسم ملامح بيروت كما كانت تفعل يومًا؟