بقلم محمد كريشان
«لم نر أي دليل على أن إسرائيل تستهدف الصحافيين عمدا، من الواضح أننا رأينا عشرات الصحافيين يموتون نتيجة لهذا الصراع وكان من بينهم سامر أبو دقة من قناة الجزيرة مؤخرا».
بهذا البرود القاتل، فضّل ماثيو ميلر المتحدث باسم الخارجية الأمريكية صياغة موقفه حول مقتل مصور الجزيرة وجرح مراسلها وائل الدحدوح خلال مهمة لتغطية قصف مدرسة فرحانة في خان يونس جنوبي قطاع غزة الجمعة الماضية.
كان في إمكان ميلر أن يتحدث في مؤتمره الصحافي قبل يومين على منوال المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة ليندا توماس حين قالت، بعد ما قتلت قوات الاحتلال قبل أسابيع أفرادا من عائلة وائل الدحدوح، بأنه «ينبغي ألا نستهين بألم ومعاناة أشخاص مثل وائل الدحدوح الصحافي الفلسطيني وينبغي حماية حياة الفلسطينيين الأبرياء كزوجته وابنه وابنته وحفيده».
كان في إمكان ميلر كذلك أن يتحدث كما فعل منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي حين سئل تحديدا هو الآخر عن مقتل مصور الجزيرة حيث قال إن ما حدث «خسارة ثقيلة، ونحن ممتنون لوجود صحافيين مثله» وأن الفقيد «كان يقوم بعمل ضروري ومهم ليس فقط للجزيرة بل للجميع» وأن بلاده «تتواصل مع حكومة تل أبيب يوميا لحثها على عدم استهداف المدنيين وخاصة الصحافيين» مقدما بالمناسبة «تعازيه الحارة» لعائلة سامر أبو دقة وزملائه وللجزيرة.
كان في إمكان ميلر أن يفعل ذلك لكنه أبى، مفضلا في المقابل، وبشكل مجاني، منح الجيش الإسرائيلي «صك براءة» فبدا كمن يسكب الملح على جرح مفتوح. المتحدث باسم الخارجية الأمريكية لم يخنه التوفيق بالكامل فقط في ما قاله بل لا عذر له بالمرة في أن يصوغ موقف إدارته بهذا الشكل المستفز للغاية لاسيما بعد ما عُرف الكثير من ملابسات ما جرى بالضبط ذلك اليوم، مما تنتفي معه أية أعذار ليقول الرجل ما قاله بتلك القطعية الوقحة والاطمئنان الكاذب.
فات ماثيو ميلر عدة أمور أساسية، أولها أن وائل الدحدوح وسامر أبو دقة لم يذهبا أصلا إلى تلك المدرسة لمعاينة آثار القصف الإسرائيلي إلا بعد القيام بالتنسيق مع جيش الاحتلال وبمعرفته الكاملة، ثم إن ما حصل لهما هناك لم يكن نتيجة قصف عشوائي أو غارات مكثفة أو تبادل لإطلاق النار بين طرفين وإنما بطائرة مسيّرة، ما كان لها أن تفعل فيهما ما فعلت، إلا بكل ما تتيحه مثل هذه المسيّرات من مجال رؤية واضح ودقة في التصويب لا تخيب، جعلها تستعمل حتى في اغتيالات أشخاص بعينهم ولو في أماكن مزدحمة. والدليل على ذلك أن هذه الطائرة، وبعد إصابة الدحدوح في يده وتمكنه من النجاة بنفسه وبعد إصابة أبو دقة الخطيرة، عادت لتقصف من جديد وتقتل عددا من المسعفين الذين هبوا إلى نجدته.
دعونا من كل ما سبق، ما الذي جعل جيش الاحتلال يمنع الإسعاف من الوصول إلى المصور الجريح وهو ملقى على الأرض لأكثر من خمس ساعات؟! وما الذي جعله يتجاهل تماما كل نداءات الاستغاثة التي أطلقها الجميع هناك في غزة وحتى من الدوحة عبر شاشة «الجزيرة»؟! ألا يدل ذلك في النهاية على قرار واضح ومسبق بالقتل والحيلولة الكاملة دون أن ينجو أحد؟! إذن، ما الذي جعل المتحدث باسم الخارجية الأمريكية يسارع إلى تبرئة إسرائيل من جريمتها؟ علما أنها ليست الأولى إذ قتل حتى الآن زهاء 90 صحافيا وعاملا في مجال الإعلام خلال العدوان الحالي على غزة، وهو ما أدانته كل منظمات حقوق الإنسان في العالم والمنظمات المدافعة عن الصحافيين، ومقار بعضها في الولايات المتحدة نفسها، بل واعتبرته جريمة حرب.
وإذا لم يكن ماثيو ميلر قادرا على أن يكون في «كياسة» كل من توماس وكيربي في الإعراب عن موقفيهما، الجامع بين تعاطف إنساني وتجنب إدانة إسرائيل، فليس أقل من أن يلجأ، مثلا، إلى تلك الحجة التي كثيرا ما رددتها واشنطن في أعقاب اغتيال شيرين أبو عاقلة في جنين في أيار/ مايو من العام الماضي، والتي كانت تعيد دون ملل ضرورة إجراء تحقيق مستقل في ملابسات ما جرى، رغم توفر كل الأدلة وقتها على أن ما تم ما كان ليحدث إلا بفعل قناص إسرائيلي يعلم جيدا أن هدفه صحافية بكل ما يشير بوضوح إلى صفتها تلك.
وإذا لم تكن جنسية الشهيدة شيرين الأمريكية قادرة على إنصافها من قبل الحكومة التي يفترض أن تسعى إلى ذلك، فكيف لنا أن نطمع بشيء آخر ؟! وإذا لم تحرص هذه الحكومة على ملاحقة قاتليها بعد أن اتضحت كل ملابسات تلك الجريمة فكيف لها أن تفعل مع آخرين؟!.
ماثيو ميلر لم يكن مطلوبا من ماثيو ميلر لا الإدانة ولا التعاطف ولا التعزية، بل كان مطلوبا منه على الأقل حدا أدنى من الاحترام للضحايا، وبالأخص حدا أدنى من احترام عقولنا، فهل هذا كثير؟!