العالمالعالم العربيتونسثقافة وفنون

كركوان البونية… حضارة تتكلّم من تحت التراب: المقبرة المنسية تنادي

انطلقت يوم السبت الفارط فعاليات الدورة 34 لشهر التراث من الموقع الأثري العالمي كركوان، بولاية نابل، بعرض فني مشهدي استثنائي تحت عنوان “سيدة كركوان”، جمع بين الغناء والرقص والتمثيل باللغة البونية، مستخدمًا تقنيات رقمية حديثة جسّدت تفاصيل الحياة اليومية في المدينة التي تُعدّ من أقدم المستوطنات الفينيقية في شمال إفريقيا.

الوزيرة أمينة الصرارفي، التي أشرفت على حفل الافتتاح، شدّدت على أهمية هذا الحدث بقولها: “كركوان ليست مجرد موقع أثري، بل شاهد على حضارة إنسانية متجذرة، ودعوة مفتوحة لتثمين تراثنا المادي وغير المادي على الصعيدين المحلي والدولي.”

ورغم هذه الأضواء المسلطة على المدينة الأثرية، فقد غابت عن الحضور الرسمي والشعبي واحدة من أبرز المعالم المرتبطة بها، وهي المقبرة البونية، التي لا تزال مجهولة لدى أغلب الزائرين، بل وحتى المهتمين بالتراث.

يقول الباحث في الآثار د. هادي قريبع: “المقبرة البونية بكركوان هي موقع مدفون بالمعنيين؛ الأثري والرمزي. نعلم أنها تضم قبورًا لحكام وقادة وسكان، وما تزال العديد منها غير مفتوحة. نحن أمام مخزون أثري ضخم لم يُستكشف بعد.”

المقبرة التي تبعد كيلومترًا ونصف فقط عن الموقع الأثري، يصعب الوصول إليها بسبب طريق مهمل، غير معبّد، ويفتقر إلى أبسط شروط السلامة والتوجيه، ولا توجد أي لافتات تعريفية تُظهر مكانها أو تُعرّف بأهميتها. ويشير أحد المواطنين المحليين إلى أن “الطريق يتحول إلى مستنقع في أيام المطر، ولا يُمكن بلوغ الموقع إلا بمشقة بالغة، كما حدث يوم زيارة الوزيرة”.

إن هذا الإهمال لا يقتصر على الطريق فحسب، بل يطال الموقع ذاته، الذي يُحتمل أن يحتوي على مكتشفات قادرة على تغيير الكثير من المعطيات حول فترة الوجود البونيقي بشمال إفريقيا، وهو ما يستوجب تحركًا رسميًا عاجلًا.

وفي هذا السياق، يوجه المهتمون بالتراث المحلي نداءً مفتوحًا إلى وزارتي الثقافة والسياحة، ووكالة إحياء التراث، وولاية نابل، وبلدية دار علوش، من أجل:

• تهيئة الطريق المؤدي إلى المقبرة وتعبيده بطريقة تحترم الطبيعة الأثرية للمكان.

• تركيز لافتات توجيهية وتعريفية تُبرز أهمية المقبرة ومكانها في تاريخ المدينة.

• إطلاق حملة تنقيب علمية تحت إشراف خبراء آثار تونسيين ودوليين.

• إدماج المقبرة في المسارات السياحية لموقع كركوان، وتوفير خدمات تسهّل زيارة الموقع.

كركوان ليست فقط أطلالًا جميلة ومشهدًا تمثيليًا يُعرض في مناسبة، بل هي قصة حضارة متجذرة تنتظر من يُنصت لصوتها القادم من الأعماق

ولا يُمكن الحديث عن كركوان دون التذكير بأن تونس بأكملها تشكّل متحفًا مفتوحًا على امتداد جغرافيتها، إذ تختزن في ترابها إرثًا حضاريًا عابرًا للعصور، من الحضارة البونية والفينيقية إلى الرومانية والبيزنطية، ثم العربية والإسلامية، وصولًا إلى الحقبة المعاصرة. هذا المخزون الثقافي والتاريخي ليس فقط شاهدًا على تنوّع الهويّة التونسية، بل يمثل رافعة للتنمية المستدامة وفرصة فريدة لتعزيز السياحة الثقافية والتعليمية والبحث العلمي. ورغم التحديات، فإن استثمار هذا الإرث وتأمينه وتثمينه هو مسؤولية وطنية تتطلب إرادة سياسية واضحة، ورؤية ثقافية تتجاوز المناسبات الظرفية نحو سياسات تراثية دائمة وشاملة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
Skip to content