الدبلوماسيةالعالم العربيتونس

سفراء لكنهم أمراء

في عالم الدبلوماسية، كثيرون هم أولئك الذين يمرّون في صمت، ينفذون مهامهم بجدارة، لكن قلة نادرة فقط تترك أثرًا يبقى حاضرًا في القلوب بعد رحيلهم. هؤلاء السفراء لا يحملون فقط رسائل دولهم، بل يحملون شيئًا أعمق، روحًا إنسانية تتخطى البروتوكولات الرسمية لتلامس جوهر العلاقات بين الشعوب.

كان السفير البحريني سعادة إبراهيم محمود عبد الله  لدى تونس من هذه القلة النادرة. رجل لم يكن مجرد ممثل لدولته، بل كان حاضرًا في تفاصيل الحياة اليومية للناس، صديقًا للفقراء، نصيرًا للمحتاجين، وشخصًا يمدّ يده حيث تنقطع السُبل. لم يكن حضوره محصورًا في أروقة السياسة أو في قاعات الاستقبال الرسمية، بل كان وجهًا مألوفًا في الأسواق الشعبية، ومشاركًا صادقًا في أفراح الناس وأحزانهم وتعرفة مأذن المساجد  طيفه مالوف هناك 

هدوءه كان لافتًا، يشعرك بالطمأنينة حتى في أحلك اللحظات. لم يكن متكلّفًا ولا متعاليًا، بل بسيطًا في تعامله، أنيقًا في حضوره، يحمل من الحكمة ما يجعله مستمعًا جيدًا ومستشارًا حكيمًا. كان يدرك أن الدبلوماسية الحقيقية لا تُقاس بعدد الاجتماعات الرسمية أو الاتفاقيات الموقّعة، بل بعمق العلاقات الإنسانية التي يبنيها.

تونس لم تكن بالنسبة له مجرد محطة دبلوماسية؛ كانت بيتًا ثانيًا، وأهلها أصبحوا أهله. كان يقف إلى جانب من يحتاج، يسعى في الخفاء لتأمين الدعم للمحتاجين، ويبحث عن حلول لمن تقطعت بهم السبل. لم يكن ذلك استعراضًا لدور إنساني، بل سلوكًا أصيلًا يعكس جوهر شخصيته.

وعندما حان وقت الرحيل، لم تغلق الأبواب خلفه كما يحدث عادة. بقي صدى حضوره يتردد في الأحياء والشوارع التي اعتاد المرور بها. ترك خلفه قصصًا يتناقلها الناس، وذكريات تملؤها المحبة والاحترام. غادر الجغرافيا لكنه بقي مزروعًا في القلوب.

الدبلوماسية، كما جسدها السفير، ( ابو أحمد ) ليست مجرد مهنة، بل مسؤولية إنسانية. هي القدرة على أن تكون جسرًا بين الشعوب، أن تحمل قيم التسامح والمحبة أينما ذهبت. وعندما يجتمع هذا الحس الإنساني مع الدور الرسمي، يولد نموذج نادر من السفراء، أولئك الذين يصبحون أمراء في أخلاقهم وإنسانيتهم

إرث إنساني يتجاوز حدود الدبلوماسية

إن تجربة السفير البحريني تعكس مفهوم الدبلوماسية الإنسانية، حيث لا تقتصر مهام السفير على تعزيز المصالح السياسية والاقتصادية فحسب، بل تمتد لتشمل بناء روابط إنسانية قوية تترك أثرًا طويل الأمد. وعندما يغادر السفير، لا تغادر أعماله الطيبة معه؛ بل تبقى شاهدة على إنسانيته ومحبته للناس.

لقد علمنا السفير أن الدبلوماسية ليست مجرد مهنة، بل رسالة تتطلب قلبًا نابضًا بالرحمة وعقلاً منفتحًا على ثقافات الآخرين. وبفضل شخصيته الفريدة، أصبح جزءًا من ذاكرة التونسيين، الذين وجدوا فيه نموذجًا للسفير الإنسان.

رغم انتهاء مهمته وعودته إلى بلاده، فإن أثره ظل حيًا، يذكره التونسيون بكل ود وامتنان. لم يكني مجرد سفير عابر، بل صديقًا وأخًا ورمزًا للكرم والتواضع. هؤلاء هم السفراء الذين لا تنتهي أدوارهم بانتهاء مهامهم، بل يبقون خالدين في ذاكرة الشعوب التي خدموها بحب وإخلاص.

في النهاية، تظل مثل هذه الشخصيات دليلاً على أن القوة الحقيقية للدبلوماسية تكمن في بعدها الإنساني. فهي لا تقاس فقط بنتائج اللقاءات والاجتماعات، بل بالأثر الذي يتركه الدبلوماسي في النفوس، ذلك الأثر الذي يبقى نابضًا حتى بعد رحيله. وبقي قلبا حي نابض بين الناس .

بسّام عوده – شؤون عربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
Skip to content