
رحل الكاتب التونسي حسونة المصباحي، أحد أبرز الأصوات الأدبية التي جعلت من القراءة مقاومة ومن الكتابة خلاصًا.
نشأ المصباحي في بيئة ريفية فقيرة بقرية الذهيبيات التابعة لولاية القيروان، بعيدًا عن صخب المدن ومكتباتها، لكنه اكتشف الكتاب باكرًا، وكان ذلك بداية تحوّل جذري في حياته. فالقراءة، كما قال في أكثر من مناسبة، أنقذته من الجهل والعزلة ومنحته معنًى لوجوده. من المتنبي إلى نيتشه، من دوستويفسكي إلى كافكا، كانت الكتب بالنسبة له “رفاق حياة”، ونوافذ للانفتاح على عوالم لا يطولها الضيق أو الفقر أو النفي.
في أحد مقالاته، كتب:
“الكتب أنقذتني من الجهل والوحشة، وجعلتني أؤمن أن في هذا العالم ما يستحق الحياة، حتى ولو لم يكن مرئيًا دائمًا.”
لم يكن حسونة المصباحي كاتبًا قارئًا فقط، بل كان ابنًا وفيًّا للقراءة، يرى فيها درعًا ضد التلاشي والعبث والخضوع، ويكتب ليعيش لا ليُرضي. كان يرى في القراءة مقاومة، وفي الأدب خلاصًا، وفي الكتاب صديقًا لا يخذل.

وفي آخر لقاء جمعنا به منذ نحو عامين، حين احتفينا بتجربته الفريدة في كتابة البورتريه الأدبي، تحدث بروح المربي المحب والمثقف المتجذر. قال يومها:
“أنا دائمًا أشعر بالسعادة عندما أحلّ بينكم. أنتم شباب يبعث على الأمل… الكتاب لن يموت. سيبقى حيًّا ما دام الإنسان حيًّا. الكتاب هو قرين الوجود، وهو الميناء الأخير لمن يشعر بأنه ضائع لا يحميه شيء، لا في السماء ولا في الأرض.”
استحضر في ذلك اللقاء قصة الأوديسة، وتحدث عن أوليس، وبينلوب، والكلب أرغوس، وقرأ المشهد بنبرة من يرى في الأدب ذروة الإنسان، وأسمى اختبار لروحه. كان يؤمن أن التكنولوجيا قد تسلبنا أشياء كثيرة، لكنها لن تنتصر على جوهر الكتاب.
قال أيضًا:
“أنا شخصيًا صرت أعود لقراءة كتب قديمة، فأكتشفها من جديد. لأنني لست الشخص ذاته الذي كنت عليه قبل ثلاثين أو حتى عشر سنوات. الآن أكتشف نفسي من خلال الكتاب.”
بعيدًا عن الأيديولوجيا، عن المعسكرات الفكرية والسياسية، ظل حسونة المصباحي مؤمنًا بأن الكاتب هو مرآته، وأن الكتابة فعل حيادية وتحسس إنساني خالص.
برحيله، تفقد الساحة الثقافية العربية صوتًا نادرًا ظل مخلصًا للغة، للقراءة، للحياة رغم قسوتها. لكنه – كما قال يومًا – سيبقى حاضرًا ما بقيت الكتب التي أحبها، وما بقيت الأرواح التي تقرأ لتحيا.
وداعًا حسونة المصباحي… ابن الكتاب، وصديقه حتى النهاية



