
كتب : بسّام عوده
في تونس، ليس غريبًا أن يولد الحدث من رحم الوفاء… وليس غريبًا أن يتحوّل شاب في ربيعه الحادي والعشرين إلى أيقونة نضال، لا بالسلاح، بل بإيمانه العميق بأن فلسطين لا يجب أن تُنسى، ولا يجوز أن تنزل رايتها عن السطوح العالية.
فارس خالد، الطالب في المدرسة العليا لعلوم وتكنولوجيات التصميم، لم يكن نجمًا على وسائل التواصل، ولا ناشطًا في منظمة سياسية. كان شابًا عاديًا، لكنه امتلك شيئًا غير عادي: قلبًا مشحونًا بقضية لم يرضَ لها أن تُغتال في صمت.
في صباح الإثنين، الثامن من أبريل، حاول فارس أن يثبت العلم الفلسطيني فوق أعلى نقطة في حرم كليته بالدندان. لم يكن عملًا استعراضيًا، بل كان ضمن فعالية تضامنية مع فلسطين، تجاوبًا مع دعوات الإضراب العالمي الذي شاركت فيه جامعات تونسية تضامنًا مع غزة، المدينة التي تحترق منذ شهور تحت نيران الإبادة.

لكن القدر كان أسرع من أمنيته. سقط فارس من ارتفاع عشرين مترًا. سقط جسده، نعم، لكن سقط أيضًا جزء من الصمت. لأن في موته، ولدت قصة، وفي رحيله، توهجت فكرة.
فارس لم يمت وحده…
ما فعله الشاب التونسي أحدث دوّامة وجدانية تجاوزت محيط جامعته وأسرته. مواقع التواصل ضجّت بالرسائل، صور فارس انتشرت مرفقة بكلمات تفيض بالألم والفخر. شهادات أصدقائه أعادت رسم صورته كشاب لا يفوّت خبرًا عن فلسطين، يعلّق، يشارك، يناقش، ويصرّ على أن الانتماء يجب أن يُترجم إلى فعل.
لم يكن استعراضًا، بل كان ممارسة للكرامة. ولعل ما هزّ الشارع التونسي أكثر من موته، هو صدقه البسيط… لم يذهب ليقاتل، بل ليضع علمًا في مكانه الطبيعي، عاليا.
التحية التي قالت كل شيء…
خلال جنازته، التُقطت صورة لرجل أمن يؤدي التحية العسكرية أثناء مرور النعش. كانت لحظة صامتة، لكنها قالت الكثير. لم تكن مجرد انضباط أمني، بل لحظة انحناء رمزية أمام المعنى الذي حمله فارس. تحية لروحٍ ارتفعت، لا لأنها ماتت، بل لأنها لم تخن.
تونس وفلسطين… علاقة ليست طارئة

ربما لهذا الحدث أصداءه الخاصة في تونس دون غيرها. فمنذ عقود، عرفت تونس معنى أن تكون فلسطين جزءًا من هويتها الوطنية. من ضيافة القيادة الفلسطينية في الثمانينات، إلى المسيرات العفوية، إلى النشيد الذي يحفظه أطفال المدارس: “فدائي فدائي”.
ليس جديدًا على تونس أن تكون وفية لفلسطين، لكن الجديد أن يُولد رمز جديد، من جيل جديد، في لحظة عالمية مخنوقة بالصمت والنفاق.
هل نصنع الحدث، أم أن الحدث يولد منا؟
هذا السؤال عاد يطرق الأذهان بقوة. لم يكن فارس يبحث عن بطولة، بل كان يمارس اقتناعه. لكنه صنع حدثًا. جعل من فعله الفردي لحظة جامعة، وكأنه اختصر جيلًا كاملًا يرى في فلسطين مرآةً للكرامة، وفي التضامن معها نوعًا من مقاومة القبح العالمي.
لقد مات فارس، نعم، لكن الحقيقة التي يجب أن نُجمع عليها: أنه عاش كما يجب، ومات كما يجب أن يموت الأحرار… واقفًا من الداخل، ولو سقط الجسد.:
في زمن تُقاس فيه البطولات بعدد المتابعين والمشاهدات، جاء فارس خالد ليذكرنا أن البطولة قد تكون صامتة، بسيطة، ومكلفة جدًا.
ترك لنا رسالة: “ارفعوا العلم، لا تنسوا، لا تخافوا”.
وفي كل مرة نرى فيها راية فلسطين ترفرف، سنتذكر شابًا تونسيًا آمن أن الأوطان لا تُحرَّر إلا إذا ظلّت حية في قلوبنا، حتى لو متنا ونحن نرفعها.




