
بسّام عوده
منذ فجر التاريخ، كانت الكتابة فعلًا مقاومًا، ومجالًا لمصارحة الذات ومواجهة السلطة والجهل والنفاق. الكلمة لم تكن أداة ترفٍ ولا وسيلة لإثارة الإعجاب، بل كانت فعلًا وجوديًا يُقاوم به الكاتب هشاشة الحياة وزيف الواقع. أما اليوم، فقد تغيّر وجه الكتابة. تراجعت عن دورها التنويري لتصبح في كثير من الأحيان أداة للاستهلاك، أو سلاحًا لتصفية الحسابات، أو مرآةً مشوّهة لمصالح الأفراد والجماعات.
نكتب أحيانًا لا لنُغير، بل لنُجمّل قبحًا نعرفه جيدًا، أو نرفع أشخاصًا نعلم أنهم لا يستحقون. نكتب طلبًا لرضا أصحاب النفوذ، أو سعياً وراء شهرة زائفة، أو لتثبيت رأي مسبق لا علاقة له بالحقيقة. في هذا المناخ، تسقط الكتابة من عليائها، وتتحوّل من فعل حرّ ومسؤول إلى مجرّد ممارسة خطابية مفرغة من المعنى.
اليوم، لم تعد الكتابة محصورة في الصحف والمجلات، بل خرجت إلى فضاءٍ مفتوح اسمه “وسائل التواصل الاجتماعي”، حيث يتخذ بعض الأشخاص من هذا الفضاء نافذة للشتم والقدح والتشهير، لا تعبيرًا عن رأي نزيه، بل سعيًا للفت الأنظار والظهور في صورة “البطل الشعبي” أو “الناقد الثائر”. يروّجون الأخبار الزائفة، ويقتطعون الصور من سياقها، ويغذّون خطاب الكراهية والانقسام، متسترين برداء حرية التعبير.
لكن الكارثة ليست في الجهل وحده، بل في أولئك الذين يدّعون المعرفة. أزمتنا اليوم أعمق من مجرد جهل عابر؛ إنها أزمة “نخب مصطنعة”، تتكلم كثيرًا وتفكر قليلاً، وتتقمص دور المثقف، بينما هي في الحقيقة جزء من ماكينة التضليل لا التنوير. هؤلاء لا يكتبون ليصلحوا، بل ليُصفّوا حساباتهم، ولا يُحركهم الوعي، بل تُحركهم الغرائز والنزعات الشخصية.
الرداءة التي تحيط بنا ليست فقط في النصوص، بل في الثقافة التي تحتضنها، في القارئ الذي لا يطلب الحقيقة بل يبحث عمن يؤكّد له قناعاته، وفي الكاتب الذي لا يتحرّج من أن يكون أداة في يد من يدفع أو يُهلّل. نعيش زمنًا تُساق فيه الكلمات لتخدم الأجندات لا المبادئ، وتُباع فيه الأقلام لمن يدفع أكثر، بينما يغيب الكاتب الحر أو يُهاجم أو يُهمّش.
في زمن الرداءة، ليس غريبًا أن تنتعش الكتابة الزائفة وتُقصى الكتابة الصادقة، لأن الصدق لا يُساير المزاج العام، ولا يطلب التصفيق، ولا يتنازل عن ضميره. هنا، تصبح الكتابة الجادة عملًا شاقًا، وخيارًا مكلفًا، لكنها في الوقت ذاته، الخيار الوحيد الذي يستحق أن نتمسك به.
• “الكتابة مرآة، وإن اختارت أن تُجمّل وجه القبح، تحوّلت إلى أداة خداع.”
• “الصدق لا يجلب شعبية، لكنه يبني أثرًا لا يزول.”
إن تدهور مستوى الكتابة ليس مجرد خلل أسلوبي أو لغوي، بل عرضٌ لمرض أعمق: غياب المشروع الثقافي، سقوط القيم، وتحوّل المثقف إلى موظف. لكن لا تزال هناك فرصة للكتابة الحقيقية، ما دامت هناك قلوب تؤمن أن الكلمة يمكن أن تُنير، لا أن تُزيّف، وأن تفضح، لا أن تُجمّل.
لذلك، نكتب رغم الرداءة، لا لنكون جزءًا منها، بل لنقاومها، حتى لو كانت كلماتنا مجرّد شموع في ليل طويل