
في عالم تسوده السرعة والتغير المستمر، يصبح التأمل في التفاصيل المهملة واللحظات المنسية فعلًا إبداعيًا يعيد تشكيل رؤيتنا للواقع. هذا هو جوهر التجربة البصرية التي تقدمها الفنانة التشكيلية شيماء العبيدي في معرضها بـ”المرسى Gallery”، حيث تحوّل ما يبدو مألوفًا وعابرًا إلى مواضيع تأملية ثرية بالمعاني. من خلال أعمالها، لا تسعى العبيدي إلى توثيق المشهد اليومي فحسب، بل تعيد صياغته بأسلوب يدفع المشاهد إلى التوقف وإعادة النظر في العلاقة بين الهوية، التسمية، والزمن. في هذا السياق، تبرز أهمية استعادة المهجور والمتروك كأداة لإعادة التفكير في إدراكنا للفن والحياة، مما يجعل تجربتها الفنية امتدادًا معاصرًا لمسار طويل من البحث في الهوية البصرية التونسية.
تُقدّم الفنانة التشكيلية شيماء العبيدي في معرضها بـ”المرسى Gallery”

رؤية فنية تتعمق في استكشاف الجوانب المهملة والمنسية من الحياة اليومية في تونس، مُحولةً إياها إلى مواضيع تأملية غنية بالمعاني والدلالات. من خلال أعمالها، تتناول العبيدي مفهوم الهوية والتسمية، مُظهرةً كيف أن الأسماء تُضفي هوية على الأشياء وتجسد المشاعر، دون أن تُحدد معناها بالضرورة.
تتجلى براعة العبيدي في قدرتها على التقاط التفاصيل التي نمر بها يوميًا دون انتباه، مُجمدةً أو مُذيبةً إياها في الزمن، لتُعيد تقديمها بزاوية جديدة تدعو المشاهد إلى التوقف والتأمل. هذا النهج يُحوّل المألوف إلى نقطة انطلاق للتفكير، حيث تُبرز الفنانة العناصر البصرية المهملة وتُعيد صياغتها بطريقة تُثير التساؤلات حول الحدود بين الواقع والخيال، والتأويل والإدراك.

من خلال استعادة المهجور والمتروك، تُعيد العبيدي بناء العلاقة بين المشاهد والموضوع، مُقدمةً تجربة بصرية تُثري الفهم والتفاعل مع الفن. هذا الطرح المبتكر يُبرز قدرة الفنانة على تحدي المفاهيم التقليدية، ودعوة المشاهد إلى إعادة النظر في ما يعتبره بديهيًا، مما يفتح آفاقًا جديدة للتفاعل مع الأعمال الفنية وفهمها.
في هذا السياق، يُمكن مقارنة منهج العبيدي بمنهج المخرجة اللبنانية هيني سرور، التي استخدمت السينما كأداة لنقل الواقع المهمل والمهمش، مُعيدةً صياغته بطرق تُثير التساؤلات وتُحفز التفكير النقدي. كلا الفنانتين تسعيان إلى تقديم رؤى تتجاوز السطح، مُستكشفتين الأعماق والمخفي، ومُقدمتين أعمالًا تُعيد بناء الفهم والتأويل بطرق مبتكرة ومُلهمة.
تُعتبر تونس، بتاريخها الغني وتنوعها الثقافي، مصدر إلهام للفنانين التشكيليين الذين يسعون إلى استكشاف الهوية التونسية من خلال أعمالهم. منذ نهاية الأربعينيات، بدأت محاولات تشكيل هوية فنية تونسية تعكس الحياة اليومية والمشاهد الطبيعية في البلاد، ممهدة الطريق لظهور “مدرسة تونس”. هذه المدرسة الفنية سعت إلى تقديم الحياة اليومية، البيوت، الأسواق، والشوارع المنتشرة في مدن البلاد من خلال الرسم والنحت والجداريات والمنسوجات بأسلوب واقعي.
في هذا السياق، يمكن اعتبار أعمال شيماء العبيدي امتدادًا لهذه الحركة، حيث تستلهم من البيئة التونسية وتعيد تقديمها بطرق معاصرة تُبرز الجمال في التفاصيل المهملة. من خلال لوحاتها، تدعو العبيدي المشاهد إلى إعادة اكتشاف الجوانب المنسية من الحياة اليومية في تونس، مُضفيةً عليها معانٍ جديدة تُثري الفهم والتأويل.
إن استعادة المهجور والمتروك في أعمال العبيدي تُعدّ عملية فنية تعيد بناء البصري واللوحة والتأويل، مما يفتح آفاقًا جديدة للتفاعل مع الفن وفهمه. هذا الطرح المبتكر يعكس رؤية فنية عميقة تتحدى المفاهيم التقليدية وتدعو إلى إعادة التفكير في كيفية تفسيرنا وتقديرنا للأعمال الفنية.
بسّام عوده